فصل: مطلب أمل إبليس في الجنة والاعتراف بوجود الإله:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال مجاهد: إن الرجل إذا لم يسمّ عند الجماع فالجانّ ينطوي على إحليله فيجامع معه، وذلك هي المشاركة، والأول أولى وأنسب بالمقام، وأحسن في التأويل وأوقع في المعنى {وَعِدْهُمْ} المواعيد الواهية والآمال الكاذبة من شفاعة الآلهة التي تسوّل لهم عبادتها وما تخيل لهم من أن الكرامة بالأنساب لا بتقوى اللّه وأن العاجل خير من الآجل، وأن لا جنة ولا نار، ولا نشر ولا حشر ولا حساب ولا عقاب، على حد قول أبي نواس:
خلياني والمعاص ** واتركا ذكر القصاص

واسقياني الخمر صرفا ** في أباريق الرصاص

إن صح عنه، وهذا لا يقوله إبليس لهم، لأنه ينفي عنهم وجود الجزاء لنفيه وجود الآخرة، وقد ختم أبو نواس البيتين بقوله:
وعلى اللّه وإن أسرفت ** في الذنب خلاصي

بما يدل على حسن عقيدته المؤيد بقوله:
إذا كنت بالنيران أوعدت من عصى ** فوعدك بالغفران ليس له خلف

إذا كنت ذا بطش شديد ونقمة ** فمن جودك الإحسان والمنّ واللطف

ركبنا خطايانا وسترك سبل ** وهل لشيء أنت ساتره كشف

إذا نحن لم نهفوا وتعفو تكرما فمن ** غيرنا يهفو وغيرك من يعفو

قال العلامة محمد بن عبد اللّه الجرداني من كتب هذه الأبيات على كفنه ودفن فيه أمن من حساب القبر وفتّانيه وما ذلك على اللّه بعزيز وهو موف بوعده {وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ} من أباطيله ويسول لهم من أضاليله {إِلَّا غُرُورًا} بهم ليستوجبوا عقاب اللّه، هذا اعتراض لبيان مواعيده، والغرور تزيين الخطأ وإلباسه بالصواب، وعليه يكون المعنى إن الشيطان يزين لهم الباطل بصورة الحق إيهاما، فيظن المغرور به أنه صواب، يقال غر فلان فلانا إذا أصاب غرته أي غفلته ونال منه ما يريد، وأصله من الغرو وهو الأثر الظاهر من الشيء، لأن الشيطان يدعو إلى أحد ثلاثة أمور إما قضاء شهوة خسيسة، وإمضاء غضب مفرط، أو غلو في طلب رياسة، ولا يدعو البتة إلى معرفة اللّه وخدمته، وهذه الأمور الثلاثة ليست في الحقيقة لذائذ بل دفع آلام، فمقترفوها والحيوانات سواء، وهي لا تحصل إلا بمتاعب كثيرة ومشاق عظيمة قد يتبعها الموت والهرم واشتغال البال بالخوف من زوالها والحرص على بقائها، قال تعالى: {إِنَّ عِبادِي} المختصين بي المخلصين لي أضافهم لذاته الكريمة تعظيما لشأنهم{لَيْسَ لَكَ} يا إبليس {عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ} أو قوة تمكنك من إغوائهم فلا تقدر بوجه من الوجوه أن تتسلط عليهم لأنهم خاصتي وأوليائي، ومن كنت وليه لا يتمكن أحد من الاستيلاء عليه، لأني وكيله {وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا} 65 لمن يتوكل عليه ويستمد المعونة منه في الخلاص من كل ما ينوبه من شيطان أو إنسان أو حيوان أو حماد، أما الذين يستنكفون عن عبادتي أمثالك وينسون نعمي عليهم فشأنك وإياهم، وموعدكم جميعا النار التي هي بئس القرار.
وهذا الخطاب بلفظ ربّك هناك إلى كرامة المخاطبين وإلى مطلق إنسان، لأن القلب لا يميل إلى كونه خطابا لإبليس وإن كان الخطاب السابق له.
هذا وليعلم السائل عن حكمة إنظار إبليس وتمكينه من الوسوسة من قبل اللّه تعالى وعدم منعه منها وعدم إنظاره مع قدرته على ذلك، هو أن اللّه تعالى فعل هذا تشديدا للتكليف على الخلق ليستحقّوا مزيد الثواب، على أن وجود إبليس ليس مانعا مما يريده اللّه جل مجده، فما شاءه كان وما لم يشأه لم يكن، واللّه خلق الخلق طبق علمه، وعلم بهم طبق ما هو عليه في أنفسهم، وانه كان عليه اللعنة جازما بأن الذي تكلم معه بذلك الكلام وهدّده بذلك التهديد هو إله العالم جل وعلا، إلا أنه غلبت عليه شقوته التي استعدت لها ذاته الخبيثة، فلم يبصر وعيد اللّه مانعا له، ولذا حين يأت يوم هلاكه، ولم يبق له شيء من أجله، يقال له اسجد اليوم لآدم لتنجو، لا يسجد أيضا، ويقول لم أسجد له حيا فكيف أسجد له ميتا! كما ورد الأثر بذلك، فيظهر عناده وعتوه وجرأته على مولاه، فيهلك كافرا كما كان كافرا، وليس حاله بأعجب من حال الكفار، إذ يتمنون العود إلى الدنيا ليؤمنوا باللّه، وقد أخبر اللّه عنهم بقوله: {وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ} الآية 19 من سورة الأنعام في ج 2، فلا محل للقول بأن إبليس عليه اللعنة لم يكن عالما بأن الذي تكلم معه وهدده هو إله العالم، لأن السياق يأبي ذلك والخطاب شاهد عليه.

.مطلب أمل إبليس في الجنة والاعتراف بوجود الإله:

وما قيل إن له أملا بالنّجاة قيل مسنده ما حكي أن مولانا عبد اللّه التستري سأل اللّه تعالى أن يريه إبليس فرآه فسأله هل تطمع في رحمة اللّه تعالى؟ فقال:
كيف لا أطمع فيها واللّه سبحانه يقول {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ} الآية 156 من الأعراف المارة، وأنا شيء من الأشياء، فقال التستري، ويلك إن اللّه تعالى قيدها بقوله: {فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ} إلخ تلك الآية، ثم وصفهم بقوله: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} إلخ الآية 157 منها أيضا، فقال له إبليس ويحك ما أجهلك القيد لك لا له، فأسكت التستري لأمر لا نعلمه، ولم يقل له إنها عامة تقبل التخصيص كتسليطك على آدم وهو قادر على منعك منه، وكان ذلك قبل تشريفه بالنبوة إذ ما عموم إلا وخصص والمخصص بالاستثناء منها أنت يا ملعون، إذ نص اللّه تعالى على جزائك بآيات متعددة بلفظ اللعن الخاص بك والطرد من رحمته، والمبعد عنها لا تشمله هذه الرحمة.
ومن هنا يضرب المثل لكل مؤمل أملا لا يدركه بالقول السائر أمل إبليس بالجنة ولهذا ولكونه مدونا في أزل اللّه بأنه يقع منه ذلك وأن اللّه يلقنه طلب الإمهال ويمهله، وما كان في علم اللّه الأزلي لا يبدل ولا يغير، فقد أجاب طلبه وأمهله وأبقاه فتنة لبعض خلقه حتى يستكمل ما قدره اللّه له من غضب وعذاب، فيهلك كسائر الخلق.
قال تعالى: {رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي} يسير ويسوق ويجزي {لَكُمُ الْفُلْكَ} السفينة والقارب يطلق على الواحد والجمع، إذ لا واحد له من لفظه مثل عالم ونساء ونسوة ورهط {فِي الْبَحْرِ} فيجعلها سائرة على ظهره بالريح الليّنة، والآن به وبالآلات المح؟؟؟ ثة، لأنها داخلة في قوله تعالى: {وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ} الآية 8 من النحل في ج 2 وذلك {لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} الريح في تجاراتكم والزيارة للبلاد التي يشق عليكم الوصول إليها بالبر تتميما لمنافعكم، وهذا تذكير ببعض نعم اللّه على عباده التي هي من دلائل توحيده، وتفسير الفضل بالحجج والنقد، وعلى رأي بعض المفسرين لا يناسب المقام لأن الفضل عام لكل ما فيه نفع، فدخولهما في عمومه أولى من التقييد بها لأنه جاء مطلقا، فإبقاؤه على إطلاقه أولى {إِنَّهُ} جل شأنه في الأزل {كانَ} ولا يزال {بِكُمْ} أيها الناس {رَحِيمًا} 66 إلى انقضاء آجالكم في الدنيا وفي الآخرة إلى إدخالكم الجنة، وإذ ذاك تبقون خالدين فيها تحت ظلّه، وحمدوا هذا الإله الذي هيأ لكم ما تحتاجونه، وسهل لكم ما يعسر عليكم، و{ربكم} في هذه الآية صفة، لقوله تعالى: قبلا {الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} الآية 51 المارة أو بدل منه وهو جائز وإن تباعد ما بينها، قال تعالى: {وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ} فأصابتكم شدة بعصف الرياح وتقاذف الأمواج وخفتم الغرق {ضَلَّ} ذهب عن خواطركم وغاب عن أوهامكم كل {مَنْ تَدْعُونَ} وتستعيثون به وترجون نفعه عنكم، ولم يبق في بالكم {إِلَّا إِيَّاهُ} جل وعلا فإنكم إذ ذاك تذكرونه وحده وتطلبون منه نجاتكم ممّا حل بكم لا من غيره، والحال أنكم في حال مرحكم وفي حالة السراء تدعون آلهتكم وحدها {فَلَمَّا نَجَّاكُمْ} ذلك الإله العظيم وأجاب دعاءكم وخرجتم {إِلَى الْبَرِّ} وأمنتم من الغرق {أَعْرَضْتُمْ} عن دعائه وحده وملتم عن الإخلاص بعد الخلاص ونسيتم حالة الشدة التي استعنتم به منها ورجعتم إلى شرككم، ويقال إن معنى أعرضتم توغلتم في التوسع في كفران النعمة على أنه من العرض بمقابل الطول وجعل كناية عن ذلك كما في قول ذي الرّمة:
عطاء فتى تمكن في المعالي ** فأعرض في المكارم واستطالا

فكأنه أراد أعرضتم واستطلتم في الكفران، إلا أنه استغنى بذكر العرض عن الطول للزومه له، والتفسير الأول أولى بالمقام وأنسب للكلام {وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُورًا} 67 لنعم اللّه تعالى مبالعا في جحودها، وهذا التعليل للإعراض وبيان لحكم الجنس، ويعلم منه حكم أولئك المخاطبين وفيه لطافة إذ أعرض اللّه عنهم، ومن اللطائف أن بعض الناس قال لبعض الأئمة اثبت لي وجود اللّه تعالى ولا تذكر الجوهر ولا العرض، فقال له هل ركبت في البحر؟ قال نعم، قال هل عصفت الريح وأنت فيه؟ قال نعم، قال فهل أشرفت بك السفينة على الغرق؟ قال نعم، قال فهل يئست من نفع من في السفينة من المخلوقين ونحوهم لك وإنجاءهم إياك مما أنت فيه؟ قال نعم، قال فهل بقي قلبك معلق بشيء آخر غيرهم ترجو منه الخلاص؟ قال نعم، قال ذلك هو اللّه عز وجل، فاستحسن ذلك منه وقنع، لأن الإنسان مهما عظم وقوعه في المهالك ولم يجد من ينفعه يبقى في قلبه أمل النجاة، وإذ لم يكن لهذا الأمل من يعلم تنفيذه، فيكون المراد به هو اللّه لا غير، قال تعالى: {أَفَأَمِنْتُمْ} أيها المعرضون عمن نجاكم من الغرق في البحر {أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ} الذي هو مأمنكم وأنتم عليه كما خسف بقارون وذهب به في أعماق الأرض، فتغور بكم وتبتلعكم، لأن البر والبحر مسخران للّه تعالى، فلا فرق عليه إن أغرقكم في البحر ويرسيكم في قعره أو خسف بكم الأرض، فيغيبكم في ثراها.
فعلى العاقل أن يجعل مخافة اللّه دائما نصب عينيه وفي سويداء قلبه في أي مكان كان {أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِبًا} حجارة صغيرة يرجمكم بها من السماء فيهلككم كما رجم قوم لوط وأبرهة وقومه في دياركم هذه، وقد شاهد آباؤكم حادثته وكثير منكم أيضا حضرها، راجع الآية 82 من سورة القصص والآية 84 من الأعراف وآخر سورة الفيل المارّات.
قال الفراء: الحاصب هو الريح التي ترمي بالحصباء.
وقال الزجاج هو التراب الذي فيه الحصباء.
وقيل ما تناثر من رقاق الثلج والبرد ومنه قول الفرزدق:
مستقبلي ن شمال الشام تضربهم ** بحاصب كنديف القطن منثور

وبمعنى السحاب الذي يرمي بها، وكلها أقوال متقاربة والأول أنسب وأولى باللفظ {ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا} 68 يصرف عنكم ذلك ويحفظكم منه إذ لا راد لأمره وهو الغالب القادر على كل شيء، قال تعالى: {أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ} أي البحر {تارَةً أُخْرى} ظرف منصوب يجمع على تارات وتير قال:
يقوم تارات ويمشي تيرًا

وقد تحذف منه الهاء كقوله: بالويل تار والثبور تارا أي مرة أخرى ومرة بعد مرة وأسند الإعادة إليه تعالى مع أنها باختيارهم.
ومما ينسب إليهم عادة كسائر أفعالهم باعتبار خلق الدواعي فيهم الملجئة إلى ذلك منه وإن كان مخلوقا له {فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ} وأنتم في البحر {قاصِفًا} قاطعا ريحا شديدة تقلع بعزم قصفها وقوة قطعها ما تمر به من شجر ونحوه ولها صوت عال مزعج {مِنَ الرِّيحِ} المغرقة في البحر المهلكة في البر {فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ} نعمة الانجاء وإجابة الدعاء في المرة الأولى، لأن ديدنكم نسيان النعم وكفران المنعم، فلا تنظرون إلّا لما هو أمامكم {ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ} بذلك الإغراق والإهلاك {تَبِيعًا} 69 يطالبنا بكم ولا متّبعا دركا لثاركم، وهذا على حد قوله تعالى: {وَلا يَخافُ عُقْباها} الآية الأخيرة من سورة والشمس المارة وقرئ بنون العظمة في الأفعال الخمسة أي نخسف ونرسل ونعيدكم فنرسل فنغرقكم قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ} بالعقل واستواء الخلقة ليدبروا معاشهم ومعادهم، وشرفناهم على الحيوانات والحيتان والطيور بذلك وبتناول طعامهم وشرابهم بأيديهم، وميّزناهم بالنطق واعتدال القامة وحسن الصورة، وذللنا لهم الحيوان والجماد وسخرناهما لهم وسلطناهم على ما على وجه الأرض وما جىء فيها من معادن ومياه، وما في المياه من حيوان وأحجار كريمة ومعادن نافعة، وخصصناهم بالتدبر والتفكر والحظ والملاذ الدنيوية الحلال، وزينا الرجال باللحى والنساء بالشعر، وهذه الإضافة تقتضي العموم فتشمل البرّ والفاجر منهم، ولهذا استدل الإمام الشافعي رحمه اللّه على طهارة الآدمي وعدم تنجيسه بالموت، وطهارة المني لأنه منه، ويكون منه {وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ} على الدواب والأنعام وغيرها مما كان وسيكون {وَالْبَحْرِ} على السفن والمراكب وغيرها مما كان وسيكون، وفي الهواء كذلك، وتحت الأرض والبحر أيضا من كل ما خلق اللّه وأطلع عليه البشر وما سيطلع عليه بعد ويسخرهم لعمله لأن عمل العبد من خلق اللّه، قال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ} الآية 91 من الصافات في ج 2، وليعلم أن ما يراه الناس من الأشياء العجيبة التي أحدثها البشر مما لا يتصوره العقل كله من خلق اللّه ولو شاء لما أطلعهم عليه وعلمهم صنعه {وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ} الحاصلة بصنعهم وبغير صنعهم من المأكول والمشروب والملبوس والمركوب والمفروش وغيرها من كل ما علم البشر صنعه بتعليم اللّه إياه.